يشتق المعنى اللغوي لمصطلح الهوية من الضمير هو . أما مصطلح الهو هو المركب من تكرار هو فقد تمّ وضعه كاسم معرّف ب أل ومعناه (( الإتحادبالذات)) [1]. ويشير مفهوم الهوية إلى ما يكون به الشيء هو هو ، أي من حيث تشخصه وتحققه في ذاته وتمييزه عن غيره ، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي تكتل بشري ، ومحتوى لهذا الضمير في نفس الآن ، بما يشمله من قيم وعادات ومقومات تكيّف وعي الجماعة وإرادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها [2] .
وتأسيسا على المقاربة الفلسفية ، تعبّر الهوية عن حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية التي تميّزه عن غيره ، كما تعبّر عن خاصية المطابقة أي مطابقة الشيء لنفسه أو لمثيله ، وبالتالي فالهوية الثقافية لأي شعب هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارته عن غيرها من الحضارات [3] .
ومن العسير أن نتصور شعبا بدون هوية ، أو نقتنع بما يزعمه داريوس شايغان أن الهوية (( صورة مغلوطة للذات )) [4] ، فمن نافلة القول تأكيد ما أثبتته الدراسات السوسيولوجية من أن لكل جماعة أو أمة مجموعة من الخصائص والمميزات الاجتماعية والنفسية والمعيشية والتاريخية المتماثلة التي تعبّر عن كيان ينصهر فيه قوم منسجمون ومتشابهون بتأثير هذه الخصائص والميزات التي تجمعهم .
ومن هذا الشعور القومي ذاته ، يستمد الفرد إحساسه بالهويةوالانتماء ، ويحسّ بأنه ليس مجرد فرد نكرة ، وإنما يشترك مع عدد كبير من أفراد الجماعة في عدد من المعطيات والمكونات والأهداف ، وينتمي إلى ثقافة مركبة من جملة من المعايير والرموز والصور[5] . وفي حالة انعدام شعور الفرد بهويته نتيجة عوامل داخلية وخارجية ، يتولد لديه ما يمكن أن تسميه بأزمة الهوية التي تفرز بدورها أزمة وعي Warness crisis تؤدي إلى ضياع الهوية نهائيا ، فينتهي بذلك
وجوده [6] .
وإذا كان إجماع الباحثين حول فكرة أنه لا وجود لشعب دون هوية ، فإنهم اختلفوا في الشكل الذي يحدد الهوية . وفي هذا السياق انتقد أحد الباحثين [7] ، ما أسماه بالشكل الميتافيزيقي الذي يحدد هوية الأمم والشعوب ، ويقدم شخصيتها في إطار تصورات استاتية أو نماذج مثالية ، دون الرؤية إليها كمجموعات حية تتميز باحتمالات تكشف عن ذاتها في عملية تحققها ، ويطرح مقابل ذلك مقاربة سوسيولوجية ترى أن الهوية تتغذى بالتاريخ وتشكل استجابة مرنة تتحول مع تحول الأوضاع الاجتماعية والتاريخية ، فتمتحّ منها ، دون أن تشكل ردّا طبيعيا ، وبذلك فهي هوية نسبية تتغير مع حركة التاريخ وانعطافاته .
والواقع أن مسألة ثبوت الهوية أو تغيرها قد طرحت على محك المساءلة والنقاش ، وأثبتت المجادلات العلمية أن هوية أي مجتمع ليست أمرا ثابتا و سرمديا كما ذهب إلى ذلك المفكر المغربي محمد عايد الجابري ، بل يرتبط بالمؤثرات الخارجية وبالتداول العلمي للأفكار والثقافات . كما يرتبط بالصراع على السلطة ، وهي الصراعات التي تشحذها هي نفسها بصورة مباشرة أو غير مباشرة المؤثرات الخارجية ولعبة التوازنات .
لكن يبدو لي أن تغير الهويات ينبغي أن يخضع لقانون التوازن بين الثوابت المميزة للهوية والعناصر القابلة للتحول ، وإلا كانت الهويةعرضة للخطر والتدمير ، فالهوية تتضمن مكونات ثابتة وأخرى قابلة للتغيير . ويعتبر الدين واللغة من الثوابت الراسخة ، بينما تكون المكونات الأخرى من عادات وقيم وطرق تفكير قابلة للتغيير في الشكل الإيجابي الذي تحدده حركية المجتمع وتفاعله بمحيطه الخارجي . وإذا كان القول بثبات اللغة كمعطى أساسي يحيل علىالهوية ، فإن ذلك لا يعني تخشيبها وتقديسها ، والحيلولة دون تطوير بنيتها لإنتاج أفكار جديدة وتوليد مصطلحات لغوية ذات قيمة.
وعلى العموم فإن مكونات الهوية الإنسانية تنسج وجودها عبر شبكة من العلائق التي تندرج في الخانات الحضارية والمشتركات التالية :
1. مجال جغرافية ووطن تاريخي مشترك .
2. أساطير وذاكرة تاريخية مشتركة.
3. ثقافة شعبية مشتركة.
4. منظومة حقوق وواجبات مشتركة.
5. اقتصاد مشترك مرتبط بمناطق معينة.[8]
و لاشك أن الهوية العربية التي بدأت في التشكل دستوريا مند كتابة صحيفة النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد هجرته إلى يثرب [9]، انطلقت من مبدأ التغير مع الإبقاء على الثوابت ، ولذلك شاركتالهوية العربية في منظومة الإنتاج الحضاري وبناء التراث العالمي [10]، وبقيت اللغة العربية محافظة على ثباتها الإيجابي باعتبارها مكونا أساسيا للهوية العربية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق